التحصين من السحر والحسد والوصايا العشر

بقية الوصايا لمقاومة السحر والحسد
ثامنا: الصدقة والإحسان
فإن لذلك تأثيراً عجيباً في دفع البلاء ودفع العين وشر الحاسد ، ولو لم يكن في هذا إلا بتجارب الأمم قديماً وحديثاً لكفى به ، فما تكاد العين والحسد والأذى يتسلط على محسن متصدق ، وإن أصابه شئ من ذلك كان معاملاً فيه باللطف والمعونة والتأييد ، وكانت له فيه العاقبة الحميدة . فالمحسن المتصدق في خفارة إحسانه وصدقته عليه من الله جنة واقية ، وحصن حصين . وبالجملة فالشكر حارس النعمة من كل ما يكون سببا لزوالها .
ومن أقوى الأسباب حسد الحاسد والعائن ، فإنه لا يفتر ولا يني ولا يبرد قلبه حتى تزول النعمة عن المحسود ، فحينئذ يبرد أنينه وتنطفئ ناره – لا أطفأها الله – فما حرس العبد نعمة الله عليه بمثل شكرها ، ولا عرضها للزوال بمثل العمل فيها بمعاصي الله ، وهو كفران النعمة وهو باب إلى كفران المنعم .
فالمحسن المتصدق يستخدم جنداً وعسكراً يقاتلون عنه وهو نائم على فراشه . فمن لم يكن له جند ، ولا عسكر ، وله عدو، فإن يوشك أن يظفر به عدوه ، وإن تأخرت مدة الظفر ، والله المستعان .
وهو من أصعب الأسباب على النفس وأشقها عليها ولا يوفق له إلا من عظم حظه من الله ، وهو إطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه . فكلما ازداد أذى وشراً وبغياَ وحسداَ ازددت إليه إحساناَ ، وله نصيحة وعليه شفقةً ، وما أظنك تُصدق بأن هذا يكون فضلاً عن أن تتعاطاه ، فاسمع الآن قوله عز وجل : ( وَلاَ تَستَوِى الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِئَةُ ادفَع بِالَّتى هِىَ أَحسَنُ فَإِذَا الَّذى بَينَكَ وَبَينَهُ عَدَاوَةٌ كأَنَّهُ وَلىُّ حَمِيمٌ * ومَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنَزغَنَّكَ مِنَ الشَّيطَانِ نَزغٌ فَاستَعِذ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العّلِيمُ ) {فصلت 34-36} .
وقال تعالى : ( أُولئِكَ يُؤتَونَ أَجرَهُم مرتَينِ بِمَا صَبَرُوا ويَدرَءُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيئَةَ وَمِمَّا رَزَقنَهُم يُنفِقُونَ ) {القصص 54} .
وتأمل حال النبي (صلى الله عليه وسلم) الذي حكى عنه نبينا (صلى الله عليه وسلم) أنه ضربه قومه حتى أدموه فجعل يسلت الدم عنه ويقول : " اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " .
كيف جمع في هذه الكلمات الأربع مقامات من الإحسان قابل بها إساءتهم العظيمة إليه ؟
أحدها : عفوه عنهم .
والثاني : استغفاره لهم .
والثالث : اعتذاره عنهم بأنهم لا يعلمون .
والرابع : استعطافه لهم بإضافتهم إليه ، فقال : " اغفر لقومي " كما يقول الرجل لمن يشفع عنده فيمن يتصل به : هذا ولدي ، هذا غلامي ، هذا صاحبي ، فهبه لي .
واسمع الآن ما الذي يسهل هذا على النفس ويطيبه إليها وينعمها به : اعلم أن لك ذنوبا بينك وبين الله ، تخاف عواقبها وترجوه أن يعفو عنها ويغفرها لك ويهبها لك . ومع هذا لا يقتصر على مجرد العفو والمسامحة حتى ينعم عليك ويكرمك ، ويجلب لك من المنافع والإحسان فوق ما تؤمله .
فإذا كنت ترجو هذا من ربك وتحب أن يقابل به إساءتك ، فما أولاك وأجدرك أن تعامل به خلقه ، وتقابل به إساءتهم ليعاملك الله تلك المعاملة ، فإن الجزاء من جنس العمل ، فكما تعمل مع الناس في إساءتهم في حقك ، يفعل الله معك في ذنوبك وإساءتك جزاء وفاقاً ، فانتقم بعد ذلك أو اعف ، وأحسن أو اترك . فكما تدين تدان ، وكما تفعل مع عباده يفعل معك . فمن تصور هذا المعنى وشغل به فكره هان عليه الإحسان إلى من أساء إليه .
وهذا مع ما يحصل له بذلك من نصر الله ومعيته الخاصة كما قال النبي (صلى الله عليه وسلم) للذي شكى إليه قرابته ، وأنه يحسن إليهم وهم يسيؤون إليه فقال : " لا يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك " .
هذا مع ما يتعجله من ثناء الناس عليه ، ويصيرون كلهم معه على خصمه ، فإن كل من سمع أنه محسن إلى ذلك الغير ، وهو مسئ إليه ، وجد قلبه ودعاءه وهمته مع المحسن على المسئ ، وذلك أمر فطري فطر الله عليه عباده .
فهو بهذا الإحسان قد استخدم عسكراً لا يعرفهم ولا يعرفونه ، ولا يريدون منه إقطاعاً ولا خبزاً . هذا مع أنه لابد له مع عدوه وحساده من إحدى حالتين :
* إما أن يملكه بإحسانه فيستعبده ، وينقاد له ، ويذل له ويبقى {من أحب} الناس إليه .
وإما أن يفتت كبده ، ويقطع دابره ، إن أقام على إساءته إليه ، فإن يذيقه بإحسانه أضعاف ما ينال منه بانتقامه . ومن جرب هذا عرفه حق المعرفة ، والله هو الموفق المعين ، بيده الخير كله لا إله غيره ، وهو المسئول أن يستعملنا وإخواننا في ذلك بمنه وكرمه .
وفي الجملة ففي هذا المقام من الفوائد ما يزيد على مائة منفعة للعبد ، في عاجله وآجله .
تاسعا: تجريد التوحيد :
وهو الجامع لذلك كله ، وعليه مدار هذه الأسباب . وهو تجريد التوحيد ، والترحل بالفكر في الأسباب إلى المسبب العزيز الحكيم ، والعلم بأن هذه الآلات بمنزلة حركات الرياح ، وهي بيد محركها ، وفاطرها وبارئها ، ولا تضر ولا تنفع إلا بإذنه فهو الذي حسن عبده بها وهو الذي يصرفها عنه وحده ، لا أحد سواه . قال تعالى : ( وَإِن يَمسَسكَ اللهُ بِضُرٍ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدكَ بِخَيرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضلِهِ ) {ابراهيم 39} .
وقال النبي (صلى الله عليه وسلم) لعبدالله بن عباس رضي الله عنهما : " واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشئ لم ينفعوك إلا بشئ قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشئ لم يضروك إلا بشئ كتبه الله عليك " .
فإذا جرد العبد التوحيد فقد خرج من قلبه خوف ما سواه ، وكان عدوه أهون عليه من أن يخافه مع الله ، بل يفرد الله بالمخافة ، وقد أمنه منه ، وخرج من قلبه اهتمامه به واشتغاله به وفكره فيه ، وتجرد لله محبة وخشية وإنابة وتوكلاً واشتغالاً به عن غيره ، فيرى أن إعماله فكره في أمر عدوه وخوفه منه واشتغاله به من نقص توحيده ، وإلا فلو جرد توحيده لكان له فيه شغل شاغل . والله يتولى حفظه ، والدفع عنه ، فإن الله يدافع عن الذين آمنوا فإن كان مؤمناً ، فالله يدافع عنه ولابد ، وبحسب إيمانه يكون دفاع الله عنه ، فإن كمل إيمانه كان دفع الله عنه أتم دفع ، وإن مزج مزج له ،وإن كان مرة ومرة فالله له مرة ومرة ، كما قال بعض السلف : " من أقبل على الله بكليته أقبل الله عليه جملة ، ومن أعرض عن الله بكليته أعرض الله عنه جملة ، ومن كان مرة ومرة فالله مرة ومرة " .
فالتوحيد حصن الله الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين ، قال بعض السلف : " من خاف الله خافه كل شئ ، ومن لم يخف الله أخافه من كل شئ " .
فهذه عشرة أسباب يندفع بها شر الحاسد والعائن والساحر ، وليس له أنفع من التوجه الى الله ، وإقباله عليه ، وتوكله عليه ، وثقته به ، وإن لا يخاف معه غيره ، بل يكون خوفه منه وحده ، ولا يرجو سواه بل يرجوه وحده ، فلا يعلق قلبه بغيره ، ولا يستغيث بسواه ، ولا يرجو إلا إياه ، ومتى علق قلبه بغيره ، ورجاه وخافه وُكِل إليه وخُذل من جهته ، فمن خاف شيئاً غير الله سُلط عليه ، ومن رجا شيئاً سوى الله خذل من جهته وحرم خيره .
هذه سنة الله في خلقه ، ولن تجد لسنة الله تبديلاً .
للعلامة ابن القيم من موقع الرقيه الشرعيه الشيخ منير عرب
راجع الجزء الأول من هذا الموضوع

تعليقات